خلال رُبع القرن الأول من تأسيسها (١٩٤٨-١٩٧٨) انتصرت إسرائيل فى كل حروبها على العرب.. ولكن مع حرب أكتوبر ١٩٧٣، بدأت كفتا الصراع تتوازنان، وتُعتبر تلك الحروب هى آخر مواجهة مُسلحة للدول العربية مع إسرائيل. وتأكد ذلك رسمياً بتوقيع معاهدتى سلام أولاهما مصرية إسرائيلية، والثانية أردنية إسرائيلية، بينما تجمدت الأمور (بلا حرب، ولا سلام، ولا مُعاهدات) بين سوريا وإسرائيل، أى أن الدول العربية المتاخمة لإسرائيل، و&Ccelig;التى خاضت معها حروباً فى الماضى، خرجت تعاهدياً أو عملياً من الصراع مع إسرائيل.
ولكن خروج الدول العربية من ساحة الوغى، لم يعنِ عملياً نهاية ذلك الصراع، فبخروج الدول والحكومات، دخلت الشعوب وتحديداً الشعبين الفلسطينى واللبنانى إلى ساحة الصراع، كان القرّاء يُدركون بداهة منطق استمرار الشعب الفلسطينى على خط النار، حيث إنه صاحب الحق فى استرداد وطنه السليب، فإن ثلث الشعب اللبنانى فى الجنوب اللبنانى يُعانى من نفس الاستلاب، لذلك فقد استمر هذا الثلث اللبنانى، مُمثلاً «بحزب الله»، مع «الكل الفلسطينى»، مُمثلاً بحركة المُقاومة الفلسطينية (حماس) هما اللذان يقودان المُقاومة العربية ضد الاحتلال الإسرائيلى، والهيمنة الصهيونية فى الوقت الحاضر.
وربما كان خروج الدول والحكومات العربية من إدارة الصراع هو نِعمة كُبرى مُقنّعة. فقد كان سجلّها تعيساً فى هذا الصدد، فقد خسرت الدول ثلاثاً من أربع حروب عربية إسرائيلية (١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٧٣)، بل كان الأكثر مذلة، هو أن هزيمة الجيوش العربية النظامية، كان يحدث خلال بضعة أيام أو بضعة أسابيع، هذا مُقارنة بطول أمد المواجهات فى حال المُقاومة الشعبية إلى سنوات، مثال ذلك، أن مواجهة حزب الله عام ٢٠٠٦ مع كل قوات إسرائيل المُسلحة براً، وبحراً، وجواً استمرت ستة أسابيع مُقارنة بستة أيام مع ثلاثة جيوش عربية عام ١٩٦٧ (لمصر وسوريا والأردن)! وقد حدث نفس الشىء فى «حرب غزة» بين إسرائيل وحركة حماس عام ٢٠٠٨-٢٠٠٩، رغم الحصار الكامل لقطاع غزة، حيث يوجد مُقاتلوها، منذ انتخابها وتوليها السُلطة فى القطاع عام ٢٠٠٦.
ولم تقتصر كفاءة حركات المُقاومة الشعبية الأفضل على الجانب العسكرى، ولكنها شملت الجوانب السياسية والإعلامية، من ذلك ما رآه العالم كله يوم السبت ٣١ مايو ٢٠١٠ مع «أسطول الحُرية»، الذى تكوّن من ست سُفن مدنية أيرلندية، أبحرت من الساحل التركى على شمال البحر الأبيض، وعلى ظهرها شُحنات من الغذاء والأسمنت وتجهيزات مدنية يحتاجها سُكان قطاع غزة المُحاصرين بواسطة إسرائيل من ثلاث جهات، وبواسطة مصر من الجهة الرابعة، وكان على ظهر نفس بواخر أسطول الحُرية عدة مئات متطوع من ٤٠ جنسية، مُعظمهم من الأتراك والأوروبيين المتعاطفين مع الشعب الفلسطينى فى غزة، وطبعاً كان معهم عدد قليل من العرب، بينهم صاحبة فكرة أسطول الحُرية الشابة الكويتية «مها الشطى» ٢٥ عاماً.
وقد وصلت الغطرسة الإسرائيلية منتهاها بهجوم رجالها من القوات الخاصة «الكوماندوز» على سفينة القيادة، وقتل تسعة من ركابها، وهى فى المياه الدولية فى عرض البحر، لمنعها من الوصول إلى غزة وكسر الحصار.. ولأن تلك الحماقة الإسرائيلية، وقعت ضد مواطنى أربعين دولة، كانوا فى مُهمة إنسانية لإنقاذ مليونى فلسطينى فى غزة من الجوع، على مرأى ومسمع من مُشاهدى الإعلام حول العالم، فقد كانت الإدانة لإسرائيل آنية وإجماعية، حتى الولايات المتحدة، وهى الحليف الوحيد الذى تبقى لإسرائيل، عبّر عن أسفه الشديد لوقوع قتلى على ظهر الباخرة «مرمرة» بل أكثر من ذلك انقسم الرأى العام الإسرائيلى بين مؤيدين لما أمرت به حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ونفّذه جيش الدفاع الإسرائيلى، وأولئك الذين أدانوا ما فعلته حكومتهم!
وأهم من استهجان وإدانة ما فعلته حكومة إسرائيل، فإن مأساة الشعب الفلسطينى عموماً، وأهالى غزة خصوصاً، قد احتلتا مساحة غير مسبوقة من اهتمام الإعلام حول العالم، حتى الرئيس الأمريكى أوباما، فى تعبيره عن الأسف والألم لما حدث، قال بصريح العبارة، إن سياسة الحصار قد أثبتت فشلها وعدم جدواها، وأمر من جانبه بإرسال مُساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، من خلال الجانب المصرى للحدود.
وخيراً فعلت حكومة مصر بدورها، أخيراً، بفتح الحدود لوصول المُساعدات لسكّان القطاع، بعد ضلوعها السابق فى إحكام الحصار، رغم التعاطف الشعبى المصرى مع أهالى غزة، ذوى العلاقة الإنسانية التاريخية بمصر.
وبصرف النظر عن كل التفاصيل والمواقف السياسية تجاه حركة حماس، وحكومتها فى غزة، فقد خرجت حماس مُنتصرة معنوياً فى المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، فقد ظهرت إعلامياً هى ومن تمثلهم فى غزة كضحية للتعنت الإسرائيلى، ولمن كانوا يؤيدون ذلك التعنت، وبدلاً من إحكام الحصار، فقد أدت الحماقة الإسرائيلية إلى كسر هذا الحصار، حيث تسابقت الأطراف الدولية، وفى مُقدمتها تركيا واليونان وقطر والكويت فى إرسال المُساعدات، وحتى حينما أجبرت إسرائيل بعض البواخر على الإرساء فى ميناء «أشدود» الإسرائيلى لإفراغ حمولتها، بدعوى التأكد من عدم وجود أسلحة عليها، وحيث تزعم إسرائيل، أنها تقوم بتوصيل تلك المعونات بنفسها إلى «مستحقيها»!
كذلك أدت الحماقة الإسرائيلية إلى استعداء كل من الحكومة والشعب التركى عليها، وربما لا يُدرك كثير من القرّاء أن تركيا كانت هى البلد الإسلامى الوحيدة الذى اعترف بإسرائيل منذ البداية (١٩٤٨)، وأبقى على هذا الاعتراف.. صحيح كانت إيران الشاهنشانية قد اعترفت أيضاً بإسرائيل لمدة عشرين عاماً، ولكن إيران الثورية الإسلامية سحبت هذا الاعتراف، عام ١٩٧٩.. صحيح أن تركيا لم تُقدم بعد على خطوة مُماثلة، ولكن خطاب رئيس الوزراء التركى، رجب طيب أردوجان للبرلمان فى أعقاب حادث الاعتداء، كان غاضباً ومليئاً برسائل التهديد، إذا لم تسارع إسرائيل إلى الاعتذار، وإجراء التحقيقات، ودفع التعويضات للضحايا.
لقد انطوى خطاب أردوجان على ما هو أكثر، حيث أعاد تأكيد موقف بلاده على التضامن مع الشعب الفلسطينى، وقضيته العادلة، كما أن المُظاهرات الشعبية العارمة فى كُبريات المُدن التركية خلال الأيام التالية، جاءت دليلاً على تعميق شرعية هذا المنحى الجديد للسياسة الخارجية التركية، التى يبدو أنها تطمح إلى القيادة الإقليمية، وربما إلى الأمجاد العثمانية.. ونعتقد، نحن أن تركيا، فى ظل حزب العدالة والتنمية، وقيادة أردوجان، لديها كل مؤهلات هذه القيادة، وقد وضع أردوجان يده على مفتاح تلك القيادة، وهو القضية الفلسطينية، ولن تستطيع إسرائيل فى هذه الحالة التستر وراء الادعاء بأنها «الديمقراطية» الوحيدة فى المنطقة، فتركيا الديمقراطية هى عشرة أمثالها، فمرحباً بالدور التركى الجديد.
وعلى الله قصد السبيل